الرأسمالية المتوحشة- تدمير القيم وصراع الفقراء وثورة قادمة

عندما انهارت الأنظمة الاشتراكية بتجلياتها الأكثر قسوة وبؤساً، مع الإقرار بوجود أنماط اشتراكية أخرى استطاعت تحقيق توازن مقبول بين مزايا الاشتراكية النظرية ومكاسب الليبرالية العملية، احتفل الرأسماليون بزهو بانتصارهم العقائدي.
لكن سرعان ما تبدد فرحهم المؤقت، وأدركوا أن سقوط تلك الأنظمة قد فتح عليهم أبواباً من التحديات لم يكونوا على استعداد لمواجهتها، وكأنهم يتساءلون: "ماذا سنفعل مع هذه الشعوب التي تحررت من القيود الصارمة والتي ستتدفق الآن نحو جنتنا المترفة؟".
فكانت الاستجابة فتح الحدود على أوسع نطاق لتدفق السلع والموارد، بهدف إغراقهم في مستنقع ثقافة الاستهلاك الرأسمالية، مع تقييد حركة الأفراد إلى أدنى حد ممكن لحماية مجتمعاتهم من خطر ما يصفونه بـ "الاستبدال الديمغرافي الواسع".
نظام رأسمالي متوحش
أعتقد جازماً أن العقول الإستراتيجية الغربية قد تفطنت إلى أمر بالغ الأهمية، وهو أن الحضارة الغربية لم تعد قادرة على إبهار العالم بروعة أفكارها ولا بجاذبية منظومة قيمها البراقة ظاهرياً، والتي نجحت لفترة طويلة في التغطية على شراسة النظام الرأسمالي، وإضفاء مسحة من النعومة الخادعة عليه.
لذا عمدت إلى إلهاء العقول وتشتيت الانتباه، وتقويض سلطة الفكر وتعطيل قدرات التدبر والتأمل، وإطلاق العنان للغرائز بكسر كافة الحواجز وإسقاط كل القيود، فانتشرت ثقافة الاستهلاك بلا هوادة، ولم يعد بالإمكان التركيز على أي قضية جوهرية.
فالصور والمشاهد تتدفق بغزارة في عصر العولمة والثورة المعلوماتية، وتتوه العقول في مساراتها المتشعبة، حتى باتت الفواجع الإنسانية مجرد أرقام باهتة لا تحرك ساكناً.
ثم توالت بعد ذلك الإجراءات القانونية المشددة لتقييد دخول الأجانب إلى "جنتهم"، تحت ستار مكافحة الإرهاب، تلك الصناعة الاستخباراتية المعقدة التي لا يدرك خفاياها إلا من خبر مكوناتها الحقيقية، وهي منظومة متشابكة الأبعاد تتداخل فيها ثلاثة عناصر رئيسية: المُخطط والمُمول والمنفذ.
اختفى من المشهد العنصران الأول والثاني، وتم التركيز بشكل مكثف على العنصر الثالث، في عرض مسرحي هوليودي متقن الإخراج، يركز على الهيئات والشعارات الإسلامية.
تدمير القيم
كانت الخطة محكمة للغاية، حيث مكنت المؤسسات الرأسمالية الكبرى من تحويل مسار الاهتمام، وإخماد أصوات الضحايا وآهاتهم، وخلق حالة من الذعر المنظم، ولم يعد الحديث عن الفوارق الاجتماعية وما يترتب عليها من صراعات ومآسٍ يحظى بأي أهمية.
من جهة أخرى، توهم البعض بسذاجة أنه بسقوط الأنظمة الشيوعية، قد انتهت معها قضية العدالة الاجتماعية التي كانت محور اهتمام النظرية الشيوعية. وقد عزز هذا الوهم الانطباع السيئ الذي خلفته الأنظمة الشيوعية بسبب الفظائع التي ارتكبتها بحق المسلمين الذين خضعوا لحكمها القسري، ثم ترسخ هذا الانطباع بشكل أكبر بسبب اندفاع معظم اليساريين في البلدان العربية والإسلامية نحو التحالف مع الأنظمة الدكتاتورية "العقلانية"، مبررين ذلك بأولوية المعركة ضد "الظلامية الدينية".
وانتهى بهم المطاف، بعد أن تلطخت أيديهم بمخلفات الرأسمالية، إلى التكيف مع هذا الواقع الجديد، وتطوير ما يسمى بثقافة النضال المريح، فتحولوا إلى أبواق ناعقة تدافع عن منظومة الفساد المالي والسياسي، وانخرطوا في سياسة تدمير ممنهجة للقيم والأخلاق.
حُوصر الفقراء في أوطانهم، وفقدوا من كانوا يعتبرونهم سنداً لهم، وهيمنت الشركات الكبرى على مصادر رزقهم. وعندما أوصلت صناديق الاقتراع الإسلاميين إلى السلطة في بعض البلدان، وظنّ المستضعفون أنهم سيجدون لدى الإسلاميين – الذين أعلنوا انحيازهم للمستضعفين – دعماً بديلاً، ولكن سرعان ما تبددت آمالهم.
فقد أتى الإسلاميون، أو بالأحرى المتنفذون بينهم، ببدعة جديدة تحت عنوان "الاندماج في الدولة"، وأصبح جل اهتمامهم هو الحصول على رضا محترفي التملق والفساد من "أعدائهم القدامى" المتربعين على عرش الإعلام، فكلما زادوهم قسوة وتوبيخاً، قالوا لهم صابرين: "أنتم أدرى منا بالسياسات الحكيمة، وأكثر منا خبرة في التعامل مع الدولة، ونحن على استعداد للتعلم منكم والاستفادة من تجاربكم".
غابت من قاموسهم مفردة العدالة الاجتماعية، وتلاشت من اهتماماتهم هموم الفقراء والمساكين، بعد أن كان الطلبة الإسلاميون في زمن نضالاتهم الطلابية يبدؤون بياناتهم وخطاباتهم بـ "باسم الله ناصر المستضعفين وقاصم الجبارين".
أم القضايا
ازدادت حدة الخلاف بين الإسلاميين واليساريين، وتصاعدت وتيرة العداء بينهما ظاهرياً، واتخذت صبغة أيديولوجية، لكنها في حقيقتها تعود إلى أسباب أعمق من مجرد الاختلافات العقائدية، وأقرب إلى الصراع المحموم على المواقع الرمزية والمادية.
فقد خشيت قوى اليسار من أن يزاحمهم الإسلاميون الاجتماعيون، على قلتهم، في مواقعهم الرمزية، وأن يتحولوا إلى مناصرين للعمل النقابي ومدافعين عن حقوق العمال، وأن ينافسهم الانتهازيون والبراغماتيون من الإسلاميين على التموقع في مفاصل الدولة من خلال التقرب من الدولة العميقة ومافيا المال.
لقد أصبحت المنافسة على وهم المبادئ من جهة، والتنافس على الرداءة من جهة أخرى، المحركين الأساسيين للصراع المرير بين اليساريين والإسلاميين.
وعلى الرغم من كل ذلك، تبقى قضية العدالة الاجتماعية هي أم القضايا على الإطلاق، وستظل كذلك. فمنذ أن كتب روسو – قبل ماركس بعقود – كتابه الشهير "أصل التفاوت الاجتماعي"، والعقل الإنساني يجتهد لتجنب وقوع زلزالها المدمر، ولكنه قادم لا محالة؛ لأن النظام الرأسمالي المتوحش – وإن استطاع أن يعدل من سلوكه الوحشي في مواطنه الأصلية، حيث أقدم على الكثير من الإصلاحات الاجتماعية، التي يبقى استمرارها مرهوناً بمواصلة سياسة النهب الممنهجة لخيرات الشعوب الأخرى – قد نجح في الاستمرار بفضل قدرته – حتى الآن – على تأمين شروط بقائه وقوته.
ما يجب ألا يغيب عن الأذهان، هو أن الغرب المتمدن مع نفسه، لا يمكن له إلا أن يكون متوحشاً مع غيره، بحكم ما يفرضه تحقيق الشروط اللازمة لتأمين التكلفة الباهظة للمواطنة الراقية التي اعتاد عليها مواطنوه، ولا يمكن له تأمين الحق في الصحة والتعليم والرفاه العام، دون اللجوء إلى نهب ثروات الشعوب الأخرى، فترسانة الغرب من تعاليم حقوق الإنسان تنهار دفعة واحدة عندما يتعلق الأمر بحماية شروط قوته ومصالحه.
لا فرق عندي إطلاقاً بين الطيار العسكري الذي يلقي من علو شاهق القذائف المدمرة على المدنيين والأطفال، وبين ذلك الموظف السامي الذي يجلس في مكتب فخم في إحدى المؤسسات المالية الدولية الناهبة لثروات الدول، ليرسم إستراتيجية النهب، فيتسبب بكل قرار يصدره لصالح رأس المال في سقوط آلاف، بل ملايين الضحايا.
سوف يلقي الفقراء بأنفسهم في البحر ليضحوا بحياتهم على أمل أن ينقذوا ما تبقى منها، وستتركهم قوارب النجاة يغرقون، على الرغم من قدرتهم على إنقاذهم، وسوف يتلاعب بقضيتهم المتلاعبون، ولكن إلى حين، وقد تخدرهم لبعض الوقت خطابات الوعود المعسولة، ولكن ثورتهم قادمة لا ريب فيها.
نرى أن من بين العوامل المهمة التي ستساهم في إحياء المسألة الاجتماعية ومنحها الاهتمام الذي تستحقه في البلدان العربية والإسلامية، هو انتهاء الصراع الأيديولوجي العقيم بين اليساريين والإسلاميين، أو بالأحرى انتهاء نفوذ اليساريين الأيديولوجيين والإسلاميين النفعيين، والتقاء اليساريين الاجتماعيين والإسلاميين الوطنيين على أرضية مشتركة، فيلتقي أصحاب الهم الاجتماعي بحاملي المبادئ القرآنية السامية للعدل الاجتماعي.
